إنني أعلم جيداً .. بأنني لستُ الوحيدة التي اُبتليتْ بهذا البلاء ..
ولستُ الأخيرة ..
لقد بدأت معاناتي منذ سنوات زواجي الأولى .. على الرغم من كونه زواجاً ناجحاً بكل المقاييس ..
وكذا زوجي .. فقد كان رجلاً صالحاً مُلتزماً بدينه .. ومُتحلِّياً بالأخلاق الرفيعة ..
لكن .. وبعد مرور عدة أشهر على زواجنا .. ونحن في أشد اللهفة لاستقبال
الخبر الذي يُفيد بأنني أصبحتُ أحمل بين أحشائي طفلنا الأول ..
إنه طفلي الذي تخيّلتُه يردد " ماما " .. ويكررها باستمرار .. مع ابتسامة جميلة فاتنة .. تَحملك قسراً على تقبيله
ولثمه .. وضمه إلى صدرك ..
أيها السادة ..
إنكم لا تعلمون مدى شعور الأم حين تسمع مثل ذلك .. الأم لديها قلباً لا
كقلوبكم .. وإحساساً لا كأحاسيسكم .... وطال انتظارنا له .. وشوقنا إليه ..
وتصرّمت السنون والسنون .. إلا أنه لم يأتِ ..
لم يأتِ .. ولم يرحم ضعف نفسي .. ولا انكسار قلبي .. وذلك حين أرى قريناتي في الدراسة قد أصبحن أُمهات ومنذ سنين ..
وإن نسيتُ فلا أنسى ذلك الموقف الذي حدث لي في المستشفى .. حين رُزِقتْ
أُختي التي تصغرني ببضع سنوات بمولود جميل .. والنساء من حولها يستبشرون ..
ويقولون وبصوت مسموع .. ولد .. ولد .. بشِّروا أباه ..
وقد تملكني حينها شعور عجيب .. شعور بالفرحة والسرور لأجل أُختي .. وشعور بالألم والحسرة لأجل حالي البئيس ..
ولكني لم أفقد الأمل بعد .. فهذي جارتي أم أيمن .. صبرت عشر سنين حتى جاءها الفرج ..
قررنا بأن نذهب إلى المستشفى لإجراء فحوصات طبية ..
فتبين أن المشكلة عندي .. وأنني مُصابة بالعقم ..
نزل الخبر عليّ كالصاعقة .. وذابت كل أحلامي .. وتلاشت كل آمالي .. بسبب كلمة واحدة من ذلك الطبيب ..
ولقد كنتُ ويا لَتعاستي في الخامسة والعشرين من سني .. أما قلبي ففي التسعين .. أو هو أكثر ..
لماذا أيها الطبيب القاسي أخبرتني الخبر .. ولِم لَم تُخفِه عني ..
ألا تعلم بضعفي .. وقلة صبري ..
عُدتُ إلى البيت .. وكأني أحمل الدنيا فوق رأسي .. استلقيتُ على سريري أُفكِّر في هذه المصيبة التي حلّتْ بنا ..
وجعلتُ أسبح في ملكوت أفكاري .. وغبتُ عن وعيي .. وفجأة دخل زوجي مُغضباً ..
وقد احمرّ وجهه .. وانتفختْ أوداجه .. وبدأ بتوجيه كلماته اللاسعة إليّ .. والتهكم عليّ بسبب أنني عاقر ..
ثم ختمها بقوله .. أنت طالق .. أنت طالق .. الحقي بأهلكِ .. فكيف لي بزوجة لا تُنجب ..
تلعثمتُ .. وتزلزلتُ في مكاني .. حاولتُ الكلام أو الرد .. فلم أستطع ..
قمتُ من سريري مذعورة ..
واكتشفتُ أنها كانت أحلاماً مُفزعة .. فحمدتُ الله أنني باقية في عصمة زوجي ..
فخفَّفَ ذلك من مُصيبتي الأولى ..
ذهبتُ إلى زوجي في مكتبته .. فلمّا رأى فزعي واضطرابي .. وكان رجلا صالحاً
.. لما رأى ذلك .. هدّأ من روعي .. وقال يا أم محمد هذا قضاء الله وقدره ..
وهذه حكمة الله وسنته في خلقه ..
يا أم محمد .. إن أمر الرزق بالأولاد بيد الله وحده .. وقد ابتلانا الله بهذا الأمر .. فعلينا بالصبر .. واحتساب الأجر عند الله
ثم سكتْ ..
قلتُ له .. هل ستصبر عليّ .. وتتحملني .. وهل ستبقيني في عصمتك .. أم أنك .... ؟
أطرقَ مليّاً .. ولم يُجب عليّ .. فكادت أطرافي تتساقط .. وقواي تنهار ..
ثم رفع رأسه إليّ وقال :
يا أم محمد .. لا تخافي ولا تحزني .. والذي نفسي بيده .. لَنَبْقى سويّاً في هذه الدنيا .. وأسأله تعالى أن يجمعنا في جنات الخلد ..
يا أم محمد .. أوَ تظنين أني سأهدم عِشرة هذي السنين .. وصفاء الليالي وذكرياتها .. لأجل أمر لا حيلة لك فيه ..
يا أم محمد .. أوَ لم تصبري عليّ كثيراً .. لقد كنتِ لا تنامين حتى أعود
إلى المنزل .. لقد كنتِ نعم الزوجة التي تُراعي حقوق زوجها .. وتسهر على
راحته .. وتلتمس مرضاته .. يا أم محمد .. أما كنّا نقوم الليل سوياً ..
ونقرأ القرآن سوياً .. أوَ ما كنّا نتواصى على صيام الاثنين والخميس .. ألم
نواجه حلاوة العيش ومُرّه سوياً .. فكيف أتخلى عنكِ لأمر لا حيلة لكِ فيه
..
يا أم محمد .. أوَ تظنين أني سأُقابل إحسانك بالإساءة .. وجميلك بالنكران .. لا والله لن أفعل ..
يا أم محمد .. ألم تسمعي هذه الآية .. " لله ملك السموات والأرض يخلق ما
يشاء يهب لمن يشاء إناثاً ويهبُ لمن يشاء الذكور* أو يُزوِّجهم ذُكراناً
وإناثاً ويجعل من يشاء عقيماً إنه عليم قدير "
يا أم محمد .. ما كنتُ لأتخلّى عنك لأمر لا حيلة لك فيه .. لأن الله تعالى قال .. " ويجعل من يشاء عقيماً " ..
يا أم محمد .. هذا عهدٌ ما حَييت بأن نبقى سوياً .. نقاسي الآلام سوياً ..
ونركبُ الصعاب والمتاعب سوياً .. ونصبر على شَظَفِ العيشِ سوياً .. وإن
حُرِمنا نعمةَ الأولاد .. فما بيننا أعلى من ذلك وأجلّ .. أليس كذلك يا أم
محمد ..
عندها لم أتمالك نفسي .. فانهمر دموعي مدراراً ..
ارتميتُ عليه .. وأنا لا أدري ما أقول من النشيج والبكاء .. فما تَمالك نفسه أيضاً .. فانهمرتْ عيناه .. وصرنا كأننا في مأتم ..
عندها رفع يديه عالياً ودموعه تبلل لحيته .. وقال .. يا أم محمد .. إني داعٍ فأَمِّنِي ..
اللهم رب السموات والأرض وقيّومهُما .. اللهم مالك الملك .. اللهم يا مُعطي
ويا مانع .. اللهم يا كريم .. يا سميع يا عليم .. اُلْطُفْ بِحالنا ..
وارزقنا الذريّة الصالحة .. وأدم علينا السعادة في الدنيا والآخرة ..
.......... وحان وقتُ صلاة العشاء .. فانصرف إلى المسجد ..
وبعدُ .. أخي الكريم .. فهذه قصة رمزية لمعاناة أُسرة .. فلا تنسى من هو في
مثل حالهما من دعوة صالحة .. وأنت بين يدي الله تناجيه في الثلث الأخير من
الليل .. أو في السجود .. واعلم أن دعوة الأخ لأخيه بظهر الغيب مُستجابة
..
ولا تنس بأن تسأل الله أن يُعافيك مما ابتلاهما به