إنّ الجنّة هي دار السلام أعدّ الله فيها من
النّعيم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، والله جلّ وعلا
يدعو عباده إلى هذه الدار، فأرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب، فمَن
استجاب لرسل الله وسلك سبيلهم دخل هذه الدار دار السّلام، ومَن عصا الرسل
وسلك سبيل الشياطين، دخل النّار دار البوار، يقول الله تعالى: {واللهُ يدعو
إلى دار السّلام ويهدي مَن يشاء إلى صراط مستقيم}.
فبالله عليكم إذا دُعيتم إلى طعام في الدنيا من إنسان تحبّونه، أما تجيبون
وتهرولون، فما بالكم والّذي يدعوكم ربّ العالمين، وإلى أيّ شيء يدعوكم؟ إلى
الجنّة دار المتقين والأبرار، قال تعالى: {وهذا صراط مستقيما قد فصّلنا
الآيات لقوم يذّكرون × لهم دار السّلام عند ربّهم وهو وليّهم بما كانوا
يعملون}.
كلّنا قد أيقن بالجنّة، ويعلم أنّه ليس بعد هذه الدار إلاّ الجنّة أو
النّار، ومع ذلك لا نرى مستعدًا لهذه الجنّة، ولا نرى مستثمرا ولا مشمّرا
لها، كلّنا يُسارع ويتسابق من أجل الدنيا، أما الجنّة فقد نمنا عنها وطال
نومنا.
وها هو ربّكم يدعوكم إلى دار السّلام، ويأمركم بالمسارعة إليها، لأنه مَن
دخلها فقد فاز وربّ الكعبة، قال الله تعالى: {فمَن زُحْزِح عن النّار
وأُدْخِل الجنّة فقد فاز، وما الحياة الدنيا إلاّ متاع الغرور}.
انظروا إلى الجنّة كما وصفها الّذي خلقها، وكما وصفها الّذي دخلها ليلة
المعراج، فقد قال عليه أفضل الصّلاة والسّلام: ''الجنّة لها أبواب كما قال
ربّنا جلّ وعلا: {والملائكة يدخلون عليهم من كلّ باب، سلام عليكم بما صبرتم
فنِعم عُقبَى الدار}''، هي أبواب تُفتح في كلّ عام في رمضان، فعن أبي
هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ''إذا جاء
رمضان فُتِحت أبواب الجنّة''.
أمّا عدد أبوابها فهي ثمانية: وأحد أبوابها ''الريان'' خُصِّص للصّائمين من
المسلمين، ففي الصحيحين عن سهل بن سعد رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم قال: ''في الجنّة ثمانية أبواب، باب منها يُسمّى الريان،
لا يدخله إلاّ الصّائمون، فإذا دخلوا أغلق فلَم يدخله غيرهم''، وهناك أيضًا
باب للمكثرين من الصّلاة وباب للمتصدّقين وباب للمجاهدين، ففي الحديث
المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم: ''وللجنّة ثمانية أبواب، فمَن كان من أهل الصّلاة دُعي من باب
الصّلاة، ومَن كان من أهل الصّدقة دُعيَ من باب الصّدقة، ومَن كان من أهل
الجهاد دُعيَ من باب الجهاد، ومَن كان من أهل الصيام دُعِيَ من باب
الصِّيام''.
واعلموا أنّ الجنّة درجات، بعضها فوق بعض، أعلاها الفردوس وفوقها عرش
الرّحمان، يقول ربّنا جلّ وعلا: {يرْفَعِ اللهُ الّذين آمنوا منكم والّذين
أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير}، ويقول عليه الصّلاة والسّلام:
''إنّ في الجنّة مائة درجة، ما بين كلّ درجتين كما ما بين السّماء والأرض،
أعلاها الفردوس''.
فيا أيُّها العبد المُوقِن بلقاء الله، انظر وأنت في الجنّة، تخيَّل نفسك
بين ثِمارها وأنهارها الّتي تجري تحت قدميك، بساتين كما تحبّ وترضَى، فيَا
مَن تضيِّعون صلاة الجمعة، وتُفضِّلون شواطئ الدنيا على شواطئ الله تعالى،
ويا مَن ترهنون تعبكم طيلة سنوات بمال يفنى وجهد يبلى، اجعلوا هممكم فوق
رؤوسكم، واطلبوا الفردوس الأعلى، لعلّ ربّكم يُعطيكم نعيما لا يبلى، وسلُوه
شربة من حوض نبيِّكم الكريم فيشْفَع فيكم، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاّ
مَن أتَى الله بقلب سليم.