بسم الله الرحمن الرحيم
أنّ الأرض تدور حول نفسِها وبذلك بتكوّن الليل والنهار ، وأنّ سبب
دورانِها ناتج عن الحرارة التي في جوفها ، ومن المعلوم أنّ هذه الحرارة لا
تدوم بل تنتهي وتبرد الأرض شيئاً فشيئاً ، وذلك على مرّ الدهور والأعوام
كما برد القمر وتوقّفت دورته حول نفسه ، فالأرض سوف تقف عن الدورة حول
نفسِها ، وذلك لسببين :
الأوّل انتهاء الحرارة التي في جوفِها ،
والثاني الذرّات والنيازك الساقطة عليها من الفضاء ؛
وبذلك تزداد قشرتها الباردة فتقف عن دورتها المحوريّة ، ولا يبقى حينئذٍ
تداول بين الليل والنهار ، بل يكون الليل في جهةٍ من الأرض ثابتاً إلى يوم
القيامة ، ويكون النهار في الجهة الأخرى ثابتاً إلى يوم القيامة ، وذلك
لأنّ الجهة التي تكون مقابلة للشمس يكون فيها نهار دائم لا ليل يعقبه ،
وأمّا الجهة التي تكون بعكس الشمس يكون فيها ليل دائم لا نهار يعقبه ؛ قال
الله تعالى في سورة القصص {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ
عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ
غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلَا تَسْمَعُونَ . قُلْ
أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ
تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} ، فقوله تعالى{إِن جَعَلَ اللَّهُ
عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا} إشارة إلى الجهة التي يكون فيها ليل دائم ،
والسرمدي هو الأبدي الذي تطول مدّته ، ومن ذلك قول طرفة بن العبد :
لَعمرُكَ ما أمري عليَّ بِغُمّةٍ نهاري ولا ليلي عليَّ بِسرمدِ
وأمّا قوله تعالى في الآية الثانية {إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا} إشارة إلى الجهة التي تكون مقابلة للشمس .
وقال تعالى في سورة المدثّر{كَلَّا وَالْقَمَرِ . وَاللَّيْلِ إِذا
أَدْبَرَ . وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ}، فالليل يريد به ذلك الليل الطويل ،
وقوله {إِذا أَدْبَرَ} يعني إذا أدبَرَ عنكم فلا يعود إليكم بل يكون
النهار ملازماً لكم فتهلكون من حرِّه ، والصبح يريد به ذلك النهار الطويل .
وقال تعالى في سورة التكوير{وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ . وَالصُّبْحِ
إِذَا تَنَفَّسَ . إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ}، فقوله تعالى {إِذَا
عَسْعَسَ} يعني إذا ثبت مكانه معكم وطال زمانه عندكم .فقد جاء في أمثلة
العرب قولهم: "عسّ عليّ خبره" ، ويقولون في الذئب الذي لا يخاف من الكلاب
ولا ينهزم إذا حمل عليه الراعي : "ذئبٌ عاسٌّ " ، وعسعس ، وعسعاس ، أي يثبت
أمام الكلاب حتّى يأخذ فريسته . فكلمة "عسعس" ومشتقّاتها تكون (ثبت ، أبطأ
، مكث ، دام ، قاوم) ومعنى الآية يكون كما يلي : قسماً بذلك الليل الطويل
إذا مكث وقسماً بذلك النهار الطويل إذا بان صبحه وأسفر عن ليله . وهذا قسم
تهديد ووعيد بعذاب ذلك اليوم وليله .
وقال تعالى في سورة الانشقاق{فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ . وَاللَّيْلِ
وَمَا وَسَقَ}، فالشفق هي الجهة التي تكون ما بين الليل والنهار. وقال
تعالى في سورة الليل{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى . وَالنَّهَارِ إِذَا
تَجَلَّى}.
وقال تعالى في سورة الضحى{وَالضُّحَى. وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى . مَا
وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} ، فقوله تعالى {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى}
يعني إذا سكن ودام ، ومن ذلك قول ابن دريد :
كأنّما البيداء غبّ صوبِهِ بحرٌ طما تيّارهُ ثمّ سجا
وقال أعشى ميمون :
فما ذنبُنا إذ جاشَ بحرُ ابنِ عمِّكم وبحرُكَ ساجٍ لا يواري الدعامصا
وقال طرفة :
وإذْ هيَ مثلَ الرئمِ صِيدَ غزالُها لَها نَظَرٌ ساجٍ إلَيْكَ تواغلُهْ
أي تديم النظر إليك ، وتقول العرب "ناقةٌ سجواء" يعني إذا حُلِبَتْ سكنتْ ، وجمع ساجٍ سواجي ، ومن ذلك قول جرير :
ولقد رَمَيْنَكَ حينَ رُحْنَ بِأعيُنٍ ينظُرْنَ مِنْ خَلَلِ الستورِ سواجي
وقال تعالى في سورة الفلق {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ . مِن شَرِّ
مَا خَلَقَ . وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} ، "فالغَسَق" هو الليل
المظلم الذي لا يطلع فيه القمر ، ولفظة "وَقَبَ" معناها دخل ؛ والمعنى :
ومن شرّ ليلٍ مظلمٍ إذا دخل ، وبربد به ذلك الليل الطويل الذي يكون في آخر
الزمان ، فإنّ الله تعالى أمر نبيّه أن يتعوّذ منشرّه ، ففي ذلك اليوم تعرج
الملائكة والصالحون إلى السماء ، ولا يبقى على الأرض إلاّ الكافرون
والفاسقون والمجرمون .
وتكون مدّة وقوف الأرض عن الحركة إلى أن تقوم القيامة ألف سنة من سنيّنا
، قال الله تعالى في سورة السجدة {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء
إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ
أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} ، "فالأمر" كناية المخلوقات الروحانيّة ،
والمعنى : تُنزَّل الملائكة من السماء إلى الأرض ثمّ تصعد إليه في يومٍ
كان مقداره ألف سنة ، ويكون صعودها إلى السماوات الأثيريّة ، وإنّما تترك
المخلوقات الروحانيّة الأرض وتعرج إلى السماء لأنّ العذاب يحلّ في ذلك
اليوم بأهل الأرض . وقال عزّ وجلّ في سورة الحج {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ
بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ
رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} يعني طوله ألف سنة معدٌّ
لعذابِهم .